2009/09/19

*غريزة العد عند الإنسان والحيوان

*غريزة العد عند الإنسان والحيوان



أودع الله ـ عز وجل ـ الإنسان غرائز شتى، من بينها غريزة العد. ولكن هل أودعها الله غير الإنسان من المخلوقات الأخرى؟

يبدو أن بعض المخلوقات تتميز بغريزة العد، إلى درجة محدودة. وهذا ما يقول به كثير من العلماء المعاصرين، ممن يعنون بدراسات سلوك الحيوان والطيور وقد ذكر هؤلاء العلماء أدلة كثيرة بناء على عدة تجارب أجريت على عينات من الطيور والحشرات.

يتميز كثير من الطيور بغريزة العد، وقد عمد بعض العلماء إلى تجربة تثبت ذلك، وتم تكرار التجربة عدة مرات، وخلصوا في النهاية إلى القول بأنه يمكنك أن تقصد عشا لأحد الطيور، به أربع بيضات، وتأخذ واحدة منها، وسترى أن الطائر لا يدرك ذلك، أما إذا أخذت بيضتين، فستلاحظ أن الطائر ينتبه لذلك، ويهاجر تاركاً المكان. والطائر يستطيع بطريقة ما، لا نملك لها تفسيراً، أن يميز بين اثنين وثلاثة.

صيد الغراب:

ثمة قصة تبين غريزة العد لدى الطيور، مؤداها، أن أحد الأشراف أراد أن يصطاد غراباً، بنى عشه في برج ساعة القصر. وحاول ذلك الرجل أن يفاجأ الغراب، ولكن دون جدوى، فكلما اقترب الرجل من البرج، يترك الغراب عشه إلى شجرة بعيدة، حيث ينتظر، ويراقب خروج الرجل من البرج ليعود مرة أخرى إلى عشه. وذات يوم لجأ الرجل إلى خدعة، هي، أن أدخل البرج رجلين، وظل أحدهما داخل البرج ليصطاد الغراب، وخرج الآخر، وذهب بعيداً عن البرج، ولكن الغراب لم يُخدع بهذه الحيلة، فظل بعيداً إلى أن خرج الرجل الذي كان داخل البرج. وتكررت هذه التجربة في الأيام التالية باستخدام رجلين، ثم ثلاثة ثم أربعة، ولكن دون نجاح. وأخيراً أرسل خمسة رجال، دخل جميعهم البرج، وبقي أحدهم فيه، بينما خرج الأربعة الآخرون. وهنا فقد الطائر إحساسه بالعدّ، ولم يستطع أن يميز بين أربعة وخمسة، فعاد مباشرة إلى العش، وتم اصطياده.

الحشرات والعد:

وليست هذه الغريزة العددية قاصرة على الطيور، فإذا راقبنا سلوك حشرة الزنبور، وجدنا الأم تضع بيضها في خلايا، كل بيضة في خلية مستقلة، وتعمد إلى تزويد كل خلية بعدد من اليرقات الحية لكي يتغذى عليها الصغير حين تفقس البيضة، ويخرج منها. ومن العجيب أن نلاحظ تساوي عدد اليرقات في كل خلية، فبعض أنواع الزنابير تضع في كل خلية خمس يرقات، وبعضها يضع اثنتي عشرة يرقة في كل خلية، وبعضها الآخر يضع أربع وعشرين يرقة، في كل خلية.

وثمة حشرة أخرى، تعرف باسم جينوس إيومينوس Genus Eumenus، تتميز بأن الذكر فيها أصغر حجماً بكثير من الأنثى. وبطريقة ما، تعرف الأم إذا كانت البيضة ستفقس، ويخرج منها ذكر أو أنثى؛ فتنظم كمية الغذاء اللازم تبعاً لذلك؛ فإذا كانت البيضة ستفقس ويخرج منها ذكر، فإنها تعد لها خمس يرقات، وأما إذا كانت البيضة ستفقس، ويخرج منها أنثى؛ فإنها تعد لها عشراً.

ويبدو أن ملكة إدراك العدد، وإن كانت محدودة، قد تكون مقصورة، بصورة أو بأخرى، على بعض أنواع معينة من الحشرات والطيور. وأنها تكاد تنعدم تماماً بين الحيوانات؛ فقد فشلت الملاحظات والتجارب التي أجريت على الكلاب والخيول، وغيرها من الحيوانات الأليفة الأخرى، في الكشف عن أي إحساس عددي لديها .

ويبدو أن النحل هو أكثر المخلوقات، باستثناء الإنسان، تمييزاً للعدد، أو تقديراً للمسافات. فالنحلة الشغالة التي تكتشف بستاناً مليئاً بالزهور، ويبعد عن الخلية بما لا يتجاوز خمسين متراً، تأتي تلك النحلة، وتقف على أحد الأقراص الشمعية، وتقوم برقصات دائرية يميناً وشمالاً، ويراقبها باقي النحل، ثم يتجه الجميع مسرعين إلى مكان الرحيق. والشغالات يذهبن إلى المكان، وقد عرفنه جميعاً، دون أن يتبعن النحلة الأولى. أما إذا كان مكان الرحيق أكثر من خمسين متراً، تستخدم النحلة رقصات، يتناقص عددها كلما بعدت المسافة، فهي سبع لفات، عندما تكون المسافة 200 متر، وهي 4.5 إذا كانت المسافة كيلومتراً واحداً، وهي لفتان، إذا كانت المسافة ستة كيلومترات .

الغريزة العددية عند الإنسان:

إن الإحساس العددي عند الإنسان محدود كذلك؛ ففي المواقف العملية، عندما يُطلب من إنسان ما، تحديد عدد أشياء توضع أمامه، فإنه يلجأ بطريقة لا شعورية إلى إحساسه العددي المباشر؛ ليجري عملية التجميع. وقد أثبتت كثير من التجارب أن الإحساس العددي، باستخدام البصر المباشر، نادراً ما يتعدى أربعة، وباستخدام حاسة اللمس أقل من ذلك.

والإحساس بالعدد عند الإنسان يظهر مثلاً عندما يلاحظ الإنسان اختفاء شيء مميز، أو نقص شيء ما، فإذا دخل حجرة بها أناس، سبق له أن رآهم منذ قليل، عرف أن عدد الأفراد بها قد نقص، لأن أحد الوجوه المألوفة غير موجود. وإذا دخل الإنسان صالة عرض (سينما) ونظر إلى مجموعتي المقاعد في الصالة، يمكنه أن يتأكد، بدون عد، إذا ما كانت المجموعتان متساويتين أو لا، وأيهما أكبر من الأخرى.

هذه الحاسة تسمى في علم الرياضيات "الشيء ونظيره" أو "واحد لواحد"، وهي تُبنى، أساساً، على مبدأ التمايز والمقابلة الذي لعب دوراً بارزاً في ظهور فكرة العدد، وصياغته، ولبيان ذلك:

تعوَّد الرعاة القدماء تجميع كمية من الحصى، لدى خروج القطيع إلى المرعى، وكلما خرج فرد من القطيع ـ وهم بالطبع لا يعرفون العدد ـ وضعوا حصاة بدلاً منه، في مكان معين، ولدى عودة القطيع في المساء، كانت تجرى عملية المقابلة، واحد لواحد، ومن ثم يتم التأكد من عودة أفراد القطيع جميعاً، دون نقص في عدد أفراده.

وكانت هذه الحاسة هي النواة، التي انبثق منها، مفهوم العدد.

والعلماء متفقون أن الإنسان، في غابر الأزمان، كان لا يعرف الأعداد الحسابية. وكل ما كان يعرفه هو تقدير الكمية بقليل أو كثير؛ فقد كان لا يعرف الفرق بين ثلاثين، أو ثلاثة وأربعين، أو واحد وعشرين ... إلخ. وغاية الأعداد التي كان يعرفها هي: واحد، واثنان، ثم كثير. ولا زال لفظ الثلاثة في كل من اللاتينية (Tres)، والفرنسية (Tre's)، والإنجليزية (Thrice)، يفيد معنى ثلاثة وكثير في الوقت نفسه.

واحد اثنان فقط

أثبتت الدراسات الأنتروبولوجية، التي أُجريت على الأقوام، الذين يعيشون في مناطق نائية، من بين كثير من القبائل في استراليا، وجزر المحيط الهندي، وأمريكا الجنوبية، وأفريقيا، وهم أشبه بالبدائيين، لم يصلوا بعد إلى مرحلة العد على الأصابع، أنه يكاد ينعدم لديهم التميز العددي. ويقول أحد العلماء، بعد دراسات طويلة، أجراها على الاستراليين البدائيين، أنه لا يوجد، بين الأهالي، من يستطيع تمييز أربعة أشياء، إلا القليل منهم، وأنه لا يوجد استرالي بدائي واحد يستطيع أن يدرك "سبعة" كما أن قبائل الأقزام، في جنوب أفريقيا، ليس لديها كلمات تدل على الأعداد، بعد واحد واثنين!، وإنما هم يطلقون على أي عدد، يزيد عن اثنين، لفظه كثير!

ولو سألت أحد أفراد قبائل الهوتونتوت، في أفريقيا ـ كما ذكر الرحالة الذين تجولوا في أنحاء القارة الأفريقية ـ كم له من الأولاد، أو كم عدداً قتل، وكان العدد يزيد عن ثلاثة، لكان جوابه. كثير !

ومن الحكايات الطريفة في هذا الشأن أن نبيلين من المجر تراهنا فيما بينهما رهاناً، يفوز به من يتفوق على صاحبه في ذكر أكبر عدد ممكن. قال أحدهما لصاحبه:

ابدأ أنت، فاذكر ما عندك.

فاستغرق صاحبه في تفكير عميق، ثم قال: ثلاثة.

وأخذ الآخر يفكر، ثم، بعد فترة، قال مستسلماً: لقد ربحت أنت الرهان.

ولا شك أن غريزة العدّ، عند الإنسان، جعلته يمضي في طريق التقدم، متفوقاً على الطيور والحشرات، وأخذ يخوض التجارب المتواصلة، إلى أن هداه الله إلى اختراع الأعداد، ليحل بها مشاكله الخاصة، في حياته اليومية، وليتعامل مع باقي أفراد جنسه، والعالم من حوله، ليصل إلى هذا المستوى الهائل من التقدم.

ليست هناك تعليقات: